أشرف غريب يكتب: السؤال المباغت والإجابة اليقينية - اخبارك الان

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أشرف غريب يكتب: السؤال المباغت والإجابة اليقينية - اخبارك الان, اليوم الأحد 19 يناير 2025 09:44 صباحاً

سألني أحد الأصدقاء سؤالا مباغتا عن الشعر والموسيقى وأيهما له العظمة والصدارة؟ وذلك على خلفية مقال قديم وقع في يده بالصدفة يحمل توقيع الشاعر الكبير فاروق جويدة، يستذكر فيه نقاشا جمع بينه وبين موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، تمحور حول السؤال ذاته: أي الفنون أعظم.. الشعر أم الرسم أم الموسيقى؟

يومها قال جويدة لعبدالوهاب إنّ فن الموسيقى هو الأعظم، متصورا أنّ هذا القول سوف يلقى هوى في نفس موسيقار كبير بقيمة محمد عبدالوهاب، لكن موسيقار الأجيال فاجأه برأي مخالف مفاده إنّ الشعر هو الأعظم لأن في البدء كان الكلمة، وأنّ الشعر هو أبو الفنون، وهو ديوان الأمم والشعوب، لا سيما أمة العرب، وفيه الموسيقى من خلال الأوزان والتفعيلات، وبه الرسم عن طريق التصوير البليغ الذي قد يفوق أعظم الرسامين.

المدهش في الأمر أنّ أيا من الرجلين (جويدة وعبدالوهاب) لم ينحز للفن الذي أبدع فيه وأخلص له بل وأفنى فيه عمره، وإنما رجّح كفة اللون الآخر من الإبداع، مدافعا بحيادية تامة ودون تأثر عن وجهة نظره المجردة من الميل الشخصي.

وقد أحيت هذه المساجلة بين جويدة وعبدالوهاب في نفسي السؤال ذاته الذي فاجأني به الصديق العزيز، ووجدتني أنحاز لوجهة نظر فاروق جويدة التي ترى أن الموسيقى هي أعظم الفنون، ليس فقط لأنها -كما قال الشاعر الكبير- لغة عالمية تخاطب الوجدان البشري في كل زمان ومكان، بعكس الشعر الذي يحتاج إلى لغة مشتركة بين المبدع والمتلقي كي تؤتي الكلمة أثرها ويصل معناها للناس.

أو اللوحة التشكيلية التي قد تحتاج إلى مفسر لما يقصده مبدعها، لا سيما إذا كانت سريالية تجريدية عبثية أو ميتافيزيقية أو شيئا من هذا القبيل، فضلا عن طبيعة متلقيها من صفوة المثقفين والمتذوقين، وإنما أيضا لأن الموسيقى إبداع خالص، خلق من عدم.

فالشعر هو استحضار من المبدع لحصيلته اللغوية وإعادة صياغتها وفق قواعد وأسس معينة تراعي حُسن البيان وجرس الموسيقى كي تعبر في مصنف جديد عن خاطرة أو فكرة بعينها، لكنه في النهاية يستند إلى كلمة موجودة بالفعل لأن في البدء كان الكلمة، وإلى مواقف حياتية مر بها أو سمع عنها من تجارب الآخرين.

ولا شك أيضا في موهبة الرسام وقدرته الإبداعية، لكنه بالأساس يستخدم ألوانا من صنع الطبيعة يحاكي بها كذلك شيئا له مثيل في الطبيعة حتى لو كان يعبر عن مكنون بداخله، ومهما استعصت اللوحة التشكيلية على متلقيها فهي في النهاية خطوط وألوان وظلال وكتل وفراغات أعيد تشكيلها وصياغتها وفق وجهة نظر مبدعها، ثم إن الطفل الصغير يستطيع أن يرسم دون معلم، وقد يحاول نظم الشعر حتى ولو بصورة بدائية.

أما الموسيقى فالأمر يختلف تماما، نعم الكون كله بجميع كائناته قائم على الموسيقى، لكنك لا تسمع الكروان يغرد مثلا من مقام «دو ماجير» عند الغرب، أو العصفور يزقزق من مقام «الراست» عند الشرق، أو عن طفل أجاد العزف والتأليف الموسيقى بالسليقة دون معلم إلا فيما ندر بين النوابغ والفلتات.

الموسيقى -كما أراها- إبداع خالص من العدم يخص صاحبه، ولا يتشابه فيه مع غيره إلا إذا قصد التقليد، والموسيقار حين يجلس إلى آلته الموسيقية لا يستدعي من ذاكرته لا كلمة يعرفها ولا صورة رآها، ولا نغمة سمعها من الطبيعة، وإنما يترك روحه الخلاقة تقوده إلى أنغام لم يكن يعرف عنها شيئا قبل الجلوس إلى آلته.

بل إن هناك عباقرة موسيقيين يكتبون موسيقاهم على الورق مباشرة دون الحاجة إلى آلة موسيقية، وأفذاذ منهم -كبيتهوفن في سنواته الأخيرة- لا يستمعون حتى إلى ما يبدعونه، ثم أنت في النهاية أمام مصنف إبداعي لا شبيه له في الحياة قادر على توحيد الوجدان الجمعي والتأثير فيه ومخاطبة كافة أجناس البشر في كل زمان ومكان، وأنت في كل الأحوال تستطيع أن تستغني عن الشعر أو الرسم، لكنك أبدا لا يمكنك العيش بلا موسيقى حتى بمعناها البسيط، وأذكر أنني يوما سألت الموسيقار عمر خيرت: هل تصورت الحياة بلا موسيقى؟ فكان جوابه: لن تكون حياة.

وكان الفنان حسين بيكار متعدد المواهب يقول إنه يقتات من الرسم، وكلماته لا تخلو من الصنعة والتصنع، أما جلوسه إلى آلته الموسيقية (كان يجيد العزف على البوزق) فهي اللحظة الوحيدة التي يخلو فيها إلى نفسه بمنتهى الصدق من دون الحاجة إلى فنون الحرفة ومتطلباتها، فيما كان المبدع صلاح جاهين -متعدد المواهب هو الآخر- يقول إن انحيازه للرسم راجع إلى تميزه فيه، لكن ربما لو كان قد فلح في تعلم الموسيقى تعليما حقيقيا لفضّلها على كل ما حباه الله من مواهب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق